الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
هذه الصناعة من ضروريات العمران ومادتها الخشب وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل للآدمي في كل مكون من المكونات منافع تكمل بها ضروراته أو حاجاته وكان منها الشجر فإن له فيه من المنافع ما لا ينحصر مما هو معروف لكل أحد. ومن منافعها اتخاذها خشباً إذا يبست. وأول منافع الخشب أن يكون وقوداً للنيران في معاشهم وعصياً للاتكاء والذود وغيرهما من ضرورياتهم ودعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثم بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو والحضر. فأما أهل البدو فيتخذون منها العمد والأوتاد لخيامهم والحدوج لظعائنهم والرماح والقسي والسهام لسلاحهم. وأما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسي لجلوسهم. وكل واحدة من هذه فالخشبة مادة لها ولا تصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة. والصناعة المتكللة بذلك المحصلة لكل واحد من صورها هي النجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أولاً: إما بخشب أصغر أو ألواح. ثم تركب تلك الفصائل بحسب الصور المطلوبة. فهو في كل ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام إلى أن تصيرأعضاء لذلك الشكل المخصوص. والقائم على هذه الصناعة هو النجار وهو ضروري في العمران. ثم إذا عظمت الحضارة وجاء الترف وتأنق الناس فيما يتخذونه من كل صنف من سقف أو باب أو كرسي أو ماعون حدث التأنق في صناعة ذلك واستجادته بغرائب من الصناعة كمالية ليست من الضروري في شيء. مثل التخطيط في الأبواب والكراسي ومثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها وتشكيلها ثم تؤلف على نسب مقدرة وتلحم بالدساتر فتبدو لمرأى العين ملتحمة وقد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كل شيء يتخذ من الخشب فيجيء آنق ما يكون. وكذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتخذة من الخشب من أي نوع كان. وكذلك قد يحتاج إلى هذه الصناعة في إنشاء المراكب البحرية ذات الألواح والدسر وهي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه وكلكله ليكون ذلك الشكل أعون لها على مصادمة الماء وجعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح. وربما اعينت بحركة المجاذيف كما في الأساطيل. وهذه الصناعة من أصلها محتاجة إلى جزء كبير من الهندسة في جميم أصنافها لأن إخراج الصور من القوة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلى معرفة التناسب في المقادير إما عموماً أو خصوصاً. وتناسب المقادير لا بد فيه من الرجوع إلى المهندس. ولهذا كان أئمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذه الصناعة فكان أوقليدس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجاراً وبها كان يعرف. وكذلك أبلونيوس صاحب كتاب المخروطات وميلاوش وغيرهم. وفيما يقال: إن معلم هذه الصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام وبها أنشأ سفينة النجاة التي كانت بها معجزته عند الطوفان. وهذا الخبر وإن كان ممكناً أعني كونه نجاراً إلا أن كونه أول من علمها أو تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد. وإنما معناه والله أعلم الإشارة إلى قدم النجارة لأنه لم تصح حكاية عنها قبل خبر نوح عليه السلام فجعل كأنه أول من تعلمها. فتفهم أسرار الصنائع في الخليقة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
والخياطة اعلم أن المعتدلين من بشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في الدفء كالفكر في الكن. ويحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحر والبرد. ولا بد لذلك من إلحام الغزل حتى يصير ثوباً واحداً وهو النسج والحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه وإن مالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعاً يقدرون منها ثوباً على البدن بشكله وتعدد أعضائه واختلاف نواحيها. ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوباً واحداً على البدن ويلبسونها. والصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي الخياطة. وهاتان الصناعتان ضروريتان في الغمران لما يحتاج إليه البشر من الرفه. فالأولى لنسج الغزل من الصوف والكتان والقطن إسداء في الطول وإلحاماً في العرض وإحكاماً لذلك النسج بالالتحام الشديد فيتم منها قطع مقدرة: فمنها الأكسية من الصوف للاشتمال ومنها الثياب من القطن والكتان للباس. والصناعة الثانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال والعوائد تفصل أولاً بالمقراض قطعاً مناسبة للأعضاء البدنية ثم تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلاً أو حبكاً أوتنبيتاً أو تفتيحاً على حسب نوع الصناعة. وهذه الثانية مختصة بالعمران الحضري لما أن أهل البدو يستغنون عنها وإنما يشتملون الأثواب اشتمالاً. وإنما تفصيل الثياب وتقديرها وإلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة وفنونها. وتفهم هذا في سر تحريم المخيط في الحج لما أن مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيوية كلها والرجوع إلى الله تعالى. " كما خلقنا أول مرة ". حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه لا طيباً ولا نساء ولا مخيطاً ولاخفاً ولايتعرض لصيد ولا لشيء من عوائده التي تكونت بها نفسه وخلقه مع أنه يفقدها بالموت ضرورة. وإنما يجيء كأنه وارد على المحشر ضارعاً بقلبه مخلصاً لربه وكان جزاؤه إن تم له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وهاتان الصنعتان قديمتان في الخليقة لما أن الدفء ضروري للبشر في العمران المعتدل. وأما المنحرف إلى الحر فلا يحتاج أهله إلى دفء. ولهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأول من السودان أنهم عراة في الغالب. ولقدم هذه الصنائع ينسبها العامة إلى إدريس عليه السلام وهو أقدم الأنبياء. وربما ينسبونها إلى هرمس وقد يقال: إن هرمس هو إدريس. والله سبحانه وتعالى هو الخلاق العليم.
وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه من الرفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك. ثم ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. وهي مختصة بالنساء في غالب الأمر لما أنهن الظاهرات بعضهن على عورات بعض. وتسمى القائمة على ذلك منهن القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء والقبول كأن النفساء تعطيها الجنين وكأنها تقبله. وذلك أن الجنين إذا استكمل خلقه في الرحم وأطواره وبلغ إلى غايته والمدة التي قدر الله لمكثه وهي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النزوع لذلك وبضيق عليه المنفذ فيعسر. وربما مزق بعض جوانب الفرج بالضغط وربما انقطع بعض ما كان في الأغشية من الالتصاق والالتحام بالرحم. وهذه كلها آلام يشتد لها الوجع وهو معنى الطلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشيء بغمز الظهر والوركين وما يحاذي الرحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدافعة في إخراج الجنين وتسهيل ما يصعب منه بما يمكنها وعلى ما تهتدي إلى معرفة عسره. ثم إذا خرج الجنين بقيت بينة وبين الرحم الوصلة حيث كان يتغذى منها متصلة من سرته بمعاه وتلك الوصلة عضو فضلي لتغذية المولود خاصة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدى مكان الفضيلة ولا تضر بمعاه ولا برحم أمه ثم تحمل مكان الجراحة منه بالكي أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثم إن الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضيق وهو رطب العظام سهل الانعطاف والانثناء فربما تتغير أشكال أعضائه وأوضاعها لقرب التكوين ورطوبة المواد فتتناوله القابلة بالغمز والإصلاح حتى يرجع كل عضو إلى شكله الطبيعي ووضعه المقدر له ويرتد خلقه سوياً. ثم بعد ذلك تراجع النفساء وتحاذيها بالغمز والملاينة لخروج أغشية الجنين لأنها ربما تتأخر عن خروجه قليلاً. ويخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطبيعية قبل استكمال خروج الأغشية وهي فضلات فتتعفن ويسري عفنها إلى الرحم فيقع الهلاك فتحاذر القابلة هذا وتحاول في إعانة الدفع إلى أن تخرج تلك الأغشية إن كانت قد تأخرت ثم ترجع إلى المولود فتمرخ أعضاءه بالأدهان والذرورات القابضة لتشده وتجفف رطوبات الرحم وتحنكه لرفع لهاته وتسعطه لاستفراغ نطوف دماغه وتغرغره باللعوق لدفع السدد من معاه وتجويفها عن الالتصاق. ثم تداوي النفساء بعد ذلك من الوهن الذي أصابها بالطلق وما لحق رحمها من ألم الانفصال إذ المولود وإن لم يكن عضواً طبيعياً فحالة التكوين في الرحم صيرته بالالتحام كالعضو المتصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. وتداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التمزيق عند الضغط في الخروج. وهذه كلها أدواء نجد هؤلاء القوابل أبصر بدوائها. وكذلك ما يعرض للمولود مدة الرضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهن أبصر بها من الطبيب الماهر. وما ذاك إلا لأن بدن الإنسان في تلك الحالة إنما هو بدن إنساني بالقوة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدناً إنسانيا بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطبيب أشد. فهذه الصناعة كما تراه ضرورتة في العمران للنوع الإنساني لا يتم كون أشخاصه في الغالب دونها. وقد يعرض لبعض أشخاص النوع الاستغناء عن هذه الصناعة: إما بخلق الله ذلك لهم معجزة وخرقاً للعادة كما في حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أو بإلهام وهداية يلهم لها المولود ويفطر عليها فيتم وجودهم من دون هذه الصناعة. فأما شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيراً. ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مسروراً مختوناً واضعاً يديه على الأرض شاخصاً ببصره إلى السماء. وكذلك شأن عيسى في المهد وغير ذلك. وأما شأن الإلهام فلا ينكر. وإذا كانت الحيوانات العجم تختص بغرائب من الإلهامات كالنحل وغيرها فما ظنك بالإنسان المفضل عليها. وخصوصاً من اختص بكرامة الله. ثم الإلهام العام للمولودين في الإقبال على الثدي أوضح شاهد على وجود الإلهام العام لهم. فشأن العناية الإلهية أعظم من أن يحاط به. ومن هنا يفهم بطلان رأي وحكماء الأندلس فيما احتجوا به لعدم انقراض الأنواع واستحالة انقطاع المكونات. وخصوصاً في النوع الإنساني. وقالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقفه على وجود هذه الصناعة التي لا يتم كون الإنسان إلا بها. إذا لو قدرنا مولوداً دون هذه الصناعة وكفالتها إلى حين الفصال لم يتم بقاؤه أصلاً. ووجود الصنائع دون الفكر ممتنع لأنها ثمرته وتابعة له. وتكلف ابن سينا في الرد على هذا الرأي لمخالفته إياه وذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع وخراب عالم التكوين ثم عوده ثانياً لاقتضاءات فلكية وأوضاع غريبة تندر في الأحقاب بزعمه فتقتضي تخمير طينة مناسبه لمزاجه بحرارة مناسبة فيتم كونه إنساناً. ثم يقيض له حيوان يخلق فيه إلهاماً لتربيته والحنو عليه إلى أن يتم وجوده وفصاله وأطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان وهذا الاستدلال غير صحيح وإن كنا نوافقه على انقطاع الأنواع لكن من غير ما استدل به. فإن دليله مبني على إسناد الأفعال إلى العلة الموجبة ودليل القول بالفاعل المختار يرد عليه ولا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال والقدرة القديمة ولا حاجة إلى هذا التكلف. ثم لو سلمناه جدلاً فغاية ما ينبني عليه اطراد وجود هذا الشخص بخلق الإلهام لتربيته في الحيوان الأعجم. وما الضرورة الداعية لذلك وإذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه للمولود نفسه كما قررناه أولاً. وخلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره فكلا المذهبين شاهدان كلى أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قررته لك. والله تعالى أعلم.
وأنها محتاج إليها في الحواضر والأمصار دون البادية هذه الصناعة ضرورية في المدن والأمصار لما عرف من فائدتها فإن ثمرتها حفظ للأصحاء ودفع المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم. واعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الجامع للطب كما ينقل بين أهل الصناعة وإن طعن فيه العلماء وهو قوله: " المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأصل كل داء البردة ". فأما قوله: المعدة بيت الداء فهو ظاهر وأما قوله الحمية رأس الدواء فالحمية الجوع وهو الاحتماء عن الطعام. والمعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية وأما قوله: أصل كل داء البردة فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة قبل أن يتم هضم الأول. وشرح هذا أن الله سبحانه خلق الإنسان وحفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل وينفذ فيه القوى الهاضمة والغاذية إلى أن يصير دماً ملائماً لأجزاء البدن من اللحم والعظم. ثم تأخذه النامية فينقلب لحماً وعظماً. ومعنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزية طوراً بعد طور حتى يصير جزءاً بالفعل من البدن. وتفسيره أن الغذاء إذا حصل في الفم ولاكته الأشداق أثرت فيه حرارة الفم طبخاً يسيراً وقلبت مزاجه بعض الشيء كما تراة في اللقمة إذا تناولتها طعاماً ثم أجدتها مضغاً فترى مزاجها غير مزاج الطعام. ثم يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموساً وهو صفو ذلك المطبوخ وترسله إلى الكبد وترسل ما رسب منه في المعاء ثفلاً ثم ينفذ إلى المخرجين. ثم تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير دماً عبيطاً وتطفو عليه رغوة من الطبخ هي الصفراء. وترسب منه أجزاء يابسة هي السوداء ويقصر الحار الغريزي بعض الشيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثم ترسلها الكبد كلها في العروق والجداول ويأخذها طبخ الحار الغريزي هناك فيكون عن الدم الخالص بخار حار رطب يمد الروح الحيواني. وتأخذ النامية مأخذها في الدم فيكون لحماً ثم غليظه عظاماً. ثم يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق واللعاب والمخاط والدمع. هذه صورة الغذاء وخروجه من القوة إلى الفعل لحماً. ثم إن أصل الأمراض ومعظمها هي الحميات. وسببها أن الحار الغريزي قد يضعف عن إتمام النضج في طبخه في كل طورمن هذه فيبقى ذلك الغذاء دون نضج. وسببه غالباً كثرة الغذاء في المعدة حتى يكون أغلب على الحار الغريزي أو إدخال الطعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأول فيشتغل به الحار الغريزي ويترك الأول بحاله. أو يتوزع عليهما فيقصر عن تمام الطبخ والنضج. وترسله المعدة كذلك إلى الكبد فلا تقوى حرارة الكبد أيضاً على إنضاجه. وربما بقي في الكبد من الغذاء الأول فضلة غير ناضجة. وترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق والدمع واللعاب إن اقتدر على ذلك. وربما يعجز عن الكثير منه فيبقى في العروق والكبد والمعدة وتتزايد مع الأيام. وكل ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطبخ والنضج يعفن فيتعفن ذلك الغذاء غير الناضج وهو المسمى بالخلط. وكل متعفن ففيه حرارة غريبة وتلك هي المسماة في بدن الإنسان بالحمى. واعتبر ذلك بالطعام إذا ترك حتى يتعفن وفي الزبل إذا تعفن أيضاً كيف تنبعث فيه الحرارة وتأخذ مأخذها. فهذا معنى الحميات في الأبدان وهي رأس الأمراض وأصلها كما وقع في الحديث. ولهذه الحميات علاجات بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثم تناوله الأغذية الملائمة حتى يتم برؤه. وكذلك في حال الصحة له علاج في التحفظ من هذا المرض وغيره وأصله كما وقع في الحديث. وقد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص فيتولد عنه مرض في ذلك العضو أوتحدث جراحات في البدن: إما في الأعضاء الرئيسة أو في غيرها. وقد يمرض العضو ويحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلها جماع الأمراض وأصلها في الغالب من الأغذية وهذا كله مرفوع إلى الطبيب. ووقوع هذه الأمراض في أهل الحضر والأمصار أكثر لخصب عيشهم وكثرة مآكلهم وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية وعدم توقيتهم لتناولها. وكثيراً ما يخلطون بالأغذية من التوابل والبقول والفواكه رطباً ويابساً في سبيل العلاج بالطبخ ولا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربما عددنا في اللون الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات والحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب. وربما يكون بعيداً عن ملاءمة البدن وأجزائه. ثم إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفضلات. والأهوية منشطة للأرواح ومقوية بنشاطها لأثر الحار الغريزي في الهضم. ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً ولا تؤثر فيهم أثراً فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن والأمصار وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة. وأما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب والجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب حتى صار لهم ذلك عادة. وربما يظن أنها جبلة لاستمرارها. ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة وعلاج الطبخ بالتوابل والفواكه إنما يدعو إليه ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها ويقرب مزاجها من ملاءمة البدن. وأما أهويتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات والعفونات إن كانوا آهلين أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن. ثم إن الرياضة موجودة فيهم من كثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات أو مهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كله الهضم ويجود ويفقد إدخال الطعام على الطعام. فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد عن الأمراض فتقل حاجتهم إلى الطب. ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه. وما ذاك إلا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد. لأنه يكون له بذلك في
من عداد الصنائع الإنسانية وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس. فهو ثاني رتبة عن الدلالة اللغوية وهو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان. وأيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأذى بها الأغراض إلى البلد البعيد فتقضى الحاجات وقد دفعت مؤونة المباشرة لها ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه في علومهم وأخبارهم فهي شريفة بجميع هذه الوجوه والمنافع. وخروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة إذ هو من جملة الصنائع. وقد قدمنا أن هذا شأنها وأنها تابعة للعمران ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرأون ومن قرأ منهم أوكتب فيكون خطه قاصراً وقراءته غير ناففة. ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن وأسهل طريقاً لاستحكام الصنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين وأحكاماً في وضع كل حرف ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم وتأتي ملكته على أتم الوجوه. وإنما أتى هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال. وليس الشأن في تعليم الخط بالأندلس والمغرب كذلك في تعلم كل حرف بانفراده على قوانين يلقيها المعلم للمتعلم وإنما يتعلم بمحاكاة الخط من كتابة الكلمات جملة. ويكون ذلك من المتعلم ومطالعة المعلم له إلى أن يحصل له الإجادة ويتمكن في بنانه الملكة فيسمى مجيداً. وقد كان الخط العربي بالغاً مبالغة من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمى بالخط الحميري. وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة إلى المنذر نسباء التبابعة في العصبية والمجددين لملك العرب بأرض العراق. ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين. فكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر. ويقال: إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية ويقال حرب بن أمية وأخذها من أسلم بن سدرة. وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم: قوم لهم ساحة العراق إذا ساروا جميعاً والخط والقلم وهو قول بعيد لأن إياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. والخط من الصنائع الحضرية. وإنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط والقلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال. ورأيت في كتاب التكملة لابن الأبار عند التعريف بابن فروخ القيرواني الفاسي الأندلسي من أصحاب مالك رضي الله عنه واسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش خبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والميم والنون قال: نعم قلت: وممن أخذتموه قال: من حرب بن أمية. قلت: وممن أخذه حرب قال: من عبد الله بن جدعان. قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان قال من أهل الأنبار. قلت: وممن أخذه أهل الأنبار قال: من طارىء طرأ عليه من أهل اليمن. قلت: وممن أخذه ذلك الطارىء قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام. وهو الذي يقول: أفي كل عام سنة تحدثونها ورأي على غير الطريق يعبر وللموت خير من حياة تسبنا بهاجرهم فيمن يسب وحمير انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة. وزاد في آخره: حدثني بذلك أبو بكر بن أبي حميرة في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الوقشي عن أبي عمر الطلمنكي ابن أبي عبد الله بن مفرح. ومن خطه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمد بن حشيش بن عمر بن أيوب المعافري التونسي عن بهلول بن عبيدة الحمي عن عبد الله بن فروخ. انتهى. وكان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة وكانوا يمنعون من تعلمها إلا بإذنهم. ومن حمير تعلمت مضر الكتابة العربية إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق لبون ما بين البدو والصناعة واستغناء البدو عنها في الأكثر فكانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريباً من كتابتهم لهذا العهد أو نقول إن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول. وأما مضر فكانوا أعرق في البدو وأبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشام ومصر فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوحش لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع. وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها. ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً ويتبع رسمه خطأ أو صواباً. وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه فاتبع ذلك وأثبت رسماً ونبه العلماء بالرسم على مواضعه. ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم أصول الرسم ليس كما يتخيل بل لكلها وجه. ويقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنه: إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع وفي زيادة الياء في بأييد إنه تنبية على كمال القدرة الربانية وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض. وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط. وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه ونسبوا إليهم الكمال بإجادته وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وذلك ليس بصحيح. واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر. والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً وكان ذلك كمالاً في حقه وبالنسبة إلى مقامه لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها. وليست الأمية كمالاً في حقنا نحن إذ هو منقطع إلى ربه ونحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية. فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا. ثم لما جاء الملك للعرب وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة واحتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلموه وتداولوه فترقت الإجادة فيه واستحكم وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان إلا أنها كانت دون الغاية. والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد. ثم انتشرت العرب في الأقطار والممالك وافتتحوا إفريقية والأندلس واختط بنو العباس بغداد وترقت الخطوط فيها إلى الغاية لما استبحرت في العمران وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية وخالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة في الميل إلى إجادة وجمال الرونق وحسن الرواء. واستحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رايتها ببغداد علي بن مقلة الوزير ثم تلاه في ذلك علي بن هلال الكاتب الشهير بابن البواب ووقف سند تعليمها عليه في المائة الثالثة وما بعدها. وبعدت رسوم الخط البغدادي وأوضاعه عن الكوفة حتى انتهى إلى المباينة. ثم ازدادت المخالفة بعد تلك العصور بتفنن الجهابذة في إحكام رسومه وأوضاعه حتى انتهت إلى المتأخرين مثل ياقوت والولي علي العجمي. ووقف سند تعليم الخط عليهم وانتقل ذلك إلى مصر وخالفت طريقة العراق بعض الشيء ولقنها العجم هنالك فظهرت مخالفة لخط أهل مصر أو مباينة. وكان الخط الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد يقرب من أوضاع الخط المشرقي. وتميز ملك الأندلس بالأمويين فتميزوا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد. وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر. وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم وانتسخت الكتب وأجيد كتبها وتجليدها وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه. ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية وتناقصت تناقص ذلك أجمع ودرست معالم بغداد بدروس الخلافه فانتقل شأنها من الخط والكتابة بل والعلم إلى مصر والقاهرة فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد. وللخط بها معلمون يرسمون للمتعلم الحروف بقوانين في وضعها. وأشكالها متعارفة بينهم. فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف على أشكال تلك الأوضاع. وقد لقنها وأما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها ومن خلفهم من البربر وتغلبت عليهم أمم النصرانية فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد. وشاركوا أهل الغمران بما لديهم من الصنائع وتعلقوا بأذيال الدولة فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفى عليه. ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما. وصارت خطوط أهل إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس وما إليها لتوفر أهل الأندلس بها عند الجالية من شرق الأندلس. وبقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس ولا تمرسوا بجوارهم. إنما كانوا يفدون على دار الملك بتونس فصار خط أهل إفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء وتراجع أمر الحضارة والترف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخط وفسدت رسومه وجهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران. وبقيت فيه آثار الخط الأندلسي تشهد بما كان لهم من ذلك لما قدمناه من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها. وحصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي لقرب جوارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريباً واستعمالهم اياهم سائر الدولة. ونسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك وداره كأنه لم يعرف. فصارت الخطوط بإفريقية والمغربين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلا العناء والمشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاذ تقرأ إلا بعد عسر. ووقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة وفساد الدول. والله يحكم لا معقب لحكمه. ولًلاستاذ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب قصيدة من بحر البسيط على روي الراء يذكر فيها صناعة الخط وموادها. من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفع بها من يريد تعلم هذه الصناعة. واولها: يا من يريد إجادة التحرير ويروم حسن الخط والتصوير إن كان عزمك في الكتابة صادقاً فارغب إلى مولاك في التيسير أعدد من الأقلام كل مثقف صلب يصوغ صناعة التحبير وإذا عمدت لبريه فتوخه عند القياس بأوسط التقدير انظر إلى طرفيه فاجعل بريه من جانب التدقيق والتخضير واجعل لجلفته قواماً عادلاً خلوا عن التطويل والتقصير حتى إذا اتقنت ذلك كله فالقط فيه جملة التدبير لاتطمعن في أن أبوح بمسزه إني أضن بسره المستور لكن جملة ما أقول بأنه ما بين تحريف إلى تدوير وألق دواتك بالدخان مدبراً بالخل أو بالحصرم المعصور وأضف إليه مغرة قد صولت مع أصفر الزرنيخ والكافور حتى إذا ما خمرت فاعمد إلى الورق النقي الناعم المخبور فاكبسه بعد القطع بالمعصار كي ينأى عن التشعيث والتغيير ثم اجعل التمثيل دأبك صابراً ما أدرك المأمول مثل صبور ابدأ به في اللوح منتضياً له عزماً تجرده عن التشمير لاتخجلن من الردى تختطه في أول التمثيل والتسطير فالأمر يصعب ثم يرجع هيناً ولرب سهل جاء بعد عسير حتى إذا أدركت ما أملته أضحيت رب مسرة وحبور واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلام كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني فلا بد لكل منهما ان يكون واضح الدلالة. قال الله تعالى: " خلق الإنسان علمه البيان " وهو يشتمل بيان الأدلة كلها. فالخط المجرد كماله أن تكون دلالته واضحة بإبانة حروفه المتواضعة وإجادة وضعها ورسمها كل واحد على حدة متميزعن الاخر إلأ ما اصطلح عليه الكتاب من إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض سوى حروف اصطلحوا على قطعها مثل الألف المتقدمة في إلكلمة - وكذا الراء والزأي والدال والذال وغيرها بخلاف ما إذا كانت متأخرة وهكذا إلى آخرها. ثم ان المتأخرين من الكتاب اصطلحوا على وصل كلمات بعضها ببعض وحذف حروف معروفة عندهم لا يعرفها إلا أهل مصطلحهم فتستعجم على غيرهم. وهؤلاء كتاب دواوين السلطان وسجلات القضاة كأنهم انفردوا بهذا الاصطلاح عن غيرهم لكثرة موارد الكتابة عليهم وشهرة كتابتهم وإحاطة كثير من دونهم بمصطلحهم. فإن كتبوا ذلك لمن لا خبرة له بمصطلحهم فينبغي أن يعدلو عن ذلك إلى البيان ما أستطاعوه وإلا كان بمثابة الخط الأعجمي لأنهما بمنزلةواحدة من عدم التواضع عليه. وليس بعذر في هذا القدر إلا كتاب الأعمال السلطانية في الأموال والجيوش لأنهم مطلوبون بكتمان ذلك عن الناس فإنه من الأسرار السلطانية التي يجب إخفاؤها فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم ويصير بمثابة المعمي 5 وهو الاصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب والفواكه والطيور أو الازاهر ووضع أشكال اخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون لتادية ما في ضمائرهم با لكتابة. وربما وضع الكتاب للعثور على ذلك وإن لم يضعوه أولأ قوانين بمقاييس استخرجوها لذلك بمداركهم يسمونها فك المعمى. وللناس في ذلك دواوين مشهورة. والله العليم الحكيم.
|